Thursday, August 15, 2019

الشهوة و الحب



يملك الشخص القدرة على التخلُّص من تجاربه العاطفية السابقة، بحيث تتحول إلى ذكرى عالقة في قلبه دون أن يكون لها أي أثر على اختياراته المستقبلية؟! أم أن للقلب خفقةً واحدة تتشابه بعدها كل الخفقات، بحيث تتحول علاقاته التالية إلى نسخة مقلَّدة من مقطوعة المشاعر الأولى؟!
تلك الأسئلة وغيرها احتلت مكانةً بارزةً في عقول الشعراء والأدباء والعلماء معًا؛ إذ ذهب الروائي المصري الراحل "إحسان عبد القدوس" في رائعته "الوسادة الخالية"، إلى أن "في حياة كلٍّ منا وهمًا جميلًا يُسمّى الحب الأول"، أما "الطاهر بن جلون" -الكاتب الفرنسي ذو الأصول المغربية- فعَنْوَنَ رواية قصصية كاملة باسم "الحب الأول.. الحب الأخير".
وما بين "وهم الحب الأول" عند "عبد القدوس" و"خلوده" عند "بن جلون"، ذهبت دراسة أجراها فريق من علماء النفس بجامعة "تورنتو" الكندية إلى أن "الأثر العميق للحب الأول يلقي بظلاله على العلاقات العاطفية التالية".
وتشير الدراسة، التي نشرتها دورية "بروسيدنجز أوف ذا ناشيونال أكاديمي أوف ساينسز" (PNAS)، إلى أن "الناس يبحثون عادةً عن الارتباط بأشخاص يحملون صفات وسمات مشابهة لمَن ارتبطوا بهم بعلاقات عاطفية سابقة".
تداعيات مستقبلية
يشير الباحثون إلى أنه "طالما ذهب البعض إلى أن الأشخاص قد يميلون إلى الارتباط بشريك حياة تختلف طباعه عن الشريك السابق، على اعتبار أن العلاقة قد انتهت بصورة غير مُرضية، في حين ذهب آخرون إلى عكس ذلك"، مشددين على أن "أهمية الدراسة ترجع إلى أن الارتباط بين شخصين تترتب عليه تداعيات كثيرة على مستقبل رفاهية الناس بصورة عامة".
تتبَّع الباحثون "التشابهات" بين 332 شخصًا من شركاء الحياة في الوقت الراهن مروا بتجربة عاطفية مع شخصين مختلفين في توقيتات مختلفة (159 رجلًا و173 سيدة بمتوسط أعمار بلغ 25.49 عامًا).
واعتمد فريق البحث على البيانات والإحصائيات التي تضمنتها "لوحة الأسرة الألمانية"، التي انطلقت في عام 2008 لتحليل العلاقات الحميمة داخل الأسر الألمانية، وهي دراسة طولية متعددة التخصصات، وتجمع بيانات عشوائية على مستوى ألمانيا، وتضم بيانات 12402 من الأشخاص وُلدوا في ثلاث فترات (1971-1973، و1981-1983، و1991-1993)؛ لتحليل العلاقات التي تتطور على مدار مراحل الحياة المتعددة بين الأجيال والشركاء.
وتَبيَّن أن المشاركين يميلون في الأغلب إلى الانجذاب والارتباط عاطفيًّا بنوع معين من الشخصيات، وتحديدًا فيما يتعلق بـ"السمات الخمس الكبرى للشخصية"، وهي: الاجتهاد والانفتاحية والانبساطية القبولية، إضافة إلى العُصابية (التي تمثل العواطف السلبية التي تجتاح الإنسان من حين إلى آخر، كتقلُّب المزاج وعدم الاستقرار العاطفي).
يكتفِ الباحثون بدراسة الملفات التعريفية للشركاء السابقين والحاليين فقط، بل عملوا على تقييم السمات الشخصية الخاصة بهم، مثل قوة الخيال، والحس الإبداعي والابتكاري، والهدوء والعصبية، والتفكير بعناية قبل اتخاذ القرارات الخاصة بحياة الأسرة.
وتم استطلاع آراء الرفقاء تجاه شركائهم الجدد من خلال الإجابة عن استبانة تضمنت عبارات مثل "أنا متواضع"، و"أنا متحفظ"، و"أنا أضع خططًا وأنفذها"، و"أنا مهتم بالعديد من الأشياء المختلفة"؛ لتقييم مدى اتفاقهم او اختلافهم مع شركاء الحياة.
بيئة مشابهة
وخلصت الدراسة إلى أن البشر لهم نمط ثابت في اختيار أزواجهم، وأن هذا النمط يمكن أن يتنبأ بالأشخاص الذين يمكن أن يحبونهم ومستقبل العلاقة بينهم، بالإضافة إلى أنه يمكن أن يُسهم في تحديد مستقبل تلك العلاقة بناءً على ما آلت إليه العلاقات السابقة.
يقول "يو بن بارك" -أستاذ علم النفس بجامعة تورنتو، والباحث الرئيسي في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": "لا نعرف سببًا محددًا لوجود اتساق وتشابه كبير بين الشركاء السابقين والحاليين، ولكن لا يمكننا استبعاد العوامل البيئية، فنحن محاطون في بيئتنا الجغرافية بأنواع مماثلة من الأشخاص، وقد يكون ذلك سببًا في التشابه بين شركائنا، والأمر نفسه بالنسبة للعوامل الدينية، مثل ميل رعايا الطائفة الكاثوليكية إلى الارتباط بأشخاص من الطائفة نفسها".
وردًّا على سؤال لـ"للعلم" حول ما إذا كان انجذابنا لشركاء جدد مشابهين للقدامى يتعدى الصفات الشخصية إلى الصفات الشكلية أيضًا، قال "بن بارك": لم نبحث هذا الأمر في دراستنا، ركزنا فقط على التشابه في الصفات الشخصية بين الشركاء السابقين والحاليين، لكن دراسات أخرى ذكرت أن التشابه في الصفات الشكلية بين الرفقاء العاطفيين السابقين والحاليين يؤدي دورًا مؤثرًا فيما يتعلق بالانجذاب إلى شريك جديد.
ويضيف "بن بارك" أن "الناس يميلون إلى اعتقاد أن اختياراتهم للسمات الشخصية لشريك الحياة تتغير بمرور الوقت، لكننا وجدنا أن اختيارات الشخص لشريك الحياة تتسم بالاستقرار بدرجة كبيرة".
توضح نتائج الدراسة أن هذا التشابه قد يرجع في جزء كبير منه إلى المعايير الثابتة التي يضعها المرء كقاعدة لاختيار شريك حياته، إضافةً إلى استرجاع المرء لصور تستند إلى تلك المعايير، ما يجعله يميل إلى الارتباط بأشخاص لديهم سمات شخصية تتسق بشكل كبير مع سمات الشريك السابق.
رصيد التجربة
وتعقيبًا على سؤال لـ"للعلم" عن سبب عدم تخوُّف الشخص من الدخول في علاقة جديدة مع شريك حياة تتشابه خصائصه مع شخص سبق أن فشلت علاقته به، يقول "بن بارك": لا نعرف تحديدًا الأسباب التي تجعل الناس يرتبطون عاطفيًّا بأشخاص متشابهين، لكن يمكن للشخص إقامة علاقة ناجحة مع شريك مماثل لشريكه السابق من خلال تعلُّم كيفية إدارة النزاعات مع هذا النوع من الشخصيات، ويمكن للخبرة -أو رصيد التجربة التي اكتسبها المرء من علاقته السابقة- أن تؤثر بشكل إيجابي على نجاح العلاقة الجديدة، حتى لو كانت مع شخص مماثل للشريك السابق.
من جهته، يعقب "إبراهيم مجدى حسين" -أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس- على نتائج الدراسة قائلًا: "إن كل شخص يضع مواصفاتٍ محددةً لشريك حياته ولا يقبل أن يتنازل عنها من أجل حدوث تقارب فكري بين الطرفين، وفى حالة انفصاله عن شريكه السابق يظل يبحث عن شخص يحمل المواصفات نفسها التي وضعها كأساس للارتباط".
ويضيف "حسين"، في تصريحات لـ"للعلم"، أنه "من الوارد في بعض الحالات العاطفية أن يبحث الشخص عن صفات الطرف الآخر نفسها رغم انفصالهما في حالة ما إذا كان الطرف الثاني هو المسؤول عن إنهاء العلاقة، فيختار المرء شخصًا يحمل الصفات نفسها؛ كنوع من التعويض أو إيجاد بديل لطرف غائب".
لكن "حسين" يستبعد في الوقت ذاته أن يبحث الفرد عن شخص يحمل صفات مشابهة لشريكه السابق بنسبة ١٠٠٪‏؛ بسبب حدوث الانفصال وإنهاء العلاقة، على حد وصفه.
تعديل التفضيلات
من جهتها، تقول "ليلية عميروش" -الباحثة بمجال علم النفس بجامعة "بوزريعة" الجزائرية-: "إن البحث عن شريك يحمل صفات مشابهة للشريك السابق هو أمر يتوقف على نوعية تلك الصفات، وهل هي صفات حميدة أم ذميمة".
وتضيف "عميروش"، في تصريحات لـ"للعلم": "إذا كان الشريك السابق يتسم بصفات سيئة مثل الغيرة الشديدة والبخل والعنف، فسيكون من الصعب على الشخص الدخول في علاقة لاحقة مع شريك يتسم بمثل هذه الصفات، أما اذا كان الحبيب السابق يحمل صفات إيجابية مثل طيبة القلب واحترام شريك الحياة، فسيكون من الطبيعي أن يبحث المرء عن شخص يتحلى بتلك المواصفات الشخصية".
ويتفق "بن بارك" مع ما تقوله "عميروش"، مضيفًا: "من المرجح أن يعمل الشخص على تعديل الصفات التي يفضلها في أثناء انتقاله من علاقة إلى أخرى إذا كانت لديه دوافع لعمل ذلك".
وكانت دراسة أجراها باحثون بجامعة "تشارلز" التشيكية قد ذكرت أن الأشخاص يميلون إلى الارتباط عاطفيًّا بمَن يحملون المواصفات الشخصية والديموجرافية والشكلية لشركائهم السابقين، وتحديدًا إذا ما كانوا يشبهون آباءهم أو أمهاتهم. 
وأشارت الدراسة إلى أن الأشخاص ينجذبون إلى مَن يشبهون آباءهم، وأن النساء اللاتي ارتبطن بعلاقة جيدة بآبائهن أكثر عرضةً للبحث عن ذكور يشبهون آباءهن في الشكل والشخصية، وأن النساء اللاتي تربين مع آباء كبار في السن يملن إلى الارتباط برجال كبار في السن".

No comments:

Post a Comment